لماذا نتألّم
لماذا نتألّم[1]

ميلاد الألم عند الإنسان يعود إلى تلك اللحظة التي فيها ابتعد الإنسان عن الله وكأنّه يريد أن يبرهن لله ذاته أنّه ليس بحاجة إليه، فورث بذلك التصرّف الشاذّ الألم والموت. كما أن خارج النور هناك ظلمة، هكذا خارج الله ألم وموت. وبدخولنا تخوم الله تعود الحياة إلينا بصورة أكيدة تلقائيًّا.

إنّ الانقسام والثورة في الكيان البشريّ دليلان على وجود الخطيئة التي هي ثمرة عدم الطاعة. فعدم الاستقرار عند الإنسان وعدم الإيمان وانعدام القدرة على فعل الصلاح منشؤها ذلك التصدّع الذي أحدثته السقطة الأولى. فإلى متى تبقى هذه المأساة؟
 
إنّه بنعمته تعالى أزال هذا التصدّع في الطبيعة الآدميّة، يوم تجسّد فأعادنا من جديد إلى الوحدة مع أبيه بصورة سرّيّة وإلى تبادل الودّ والعشق مع المحبّة بواسطة بشارة ابنه الجديدة، وهي أن نحفظ وصاياه، ووصاياه ليست بثقيلة، وأن نتّحد به باشتراكنا في الأسرار الكنسيّة. وهناك وسائط نعمة كثيرة متعدّدة وضعها يسوع في متناول يدنا لكيما نسترجع بواسطتها يومًا بعد يوم ذلك السلام وتلك الدالّة اللذين خسرناهما في الفردوس بسبب كبريائنا.
 
الإنسان كالغبار تذرّيه الريح عن وجه الأرض.. فيملأ الكون من غباره. ولكنّ رحمة الله عادت فجمعت تلك الذرّات المبعثرة هنا وهنالك في بوتقة واحدة وصهرتها بمحبّتها وحلمها لتصير وحدة كاملة من جديد، فلا يعود أحد حينذاك يسمح للألم أو الحزن أو اليأس أن يعشّش في زوايا كيانه، لأنّ الله قد صالحنا بدم ابنه على الصليب مصالحة نهائيّة.
 
إنّ طبيعة آدم يوم لم ترضَ الله سيّدًا عليها، صارت عبدة لآلامها وشهواتها. تتألّم وتنزعج، لا تستطيع احتمال أيّ انزعاج. يباغتها المخاض ولا تلد، لماذا؟ لأنّها لم تنعتق بعد من "الأنا"، من "الكثرة"، من الانقسام الذي هي فيه نتيجة عدم اللجوء إلى الله بيسوع الوسيط، باتّباع وصاياه. يسوع الذي لم يُصلب إلّا من أجل أن يرجع الإنسان إلى حضن أبيه. يسوع على يقين من حبّه لنا، فإلى متى لا نبادله ذلك الحبّ الذي أحبّنا؟

كانت الطبيعة البشريّة حتّى مجيء المسيح تتكاثر للموت، للعدم، للاضمحلال. كان زمانها زمان فساد يطول. لم يقصّر ذلك الزمان لولا ورود الكلمة المتجسّد الذي فتح لنا بابًا على الأرض إذا دخلناه، دخلنا في أزليّة الوعد الذي وعدنا به، والله غير كاذب، وذقنا الطعم المسبق لتلك المائدة التي أُعدّت لنا من قبل إنشاء العالم. إلّا أنّه رغم استعادتنا وحدتنا مع الله بواسطة يسوع سرّيًّا، فالإنسان عندما يميل من جديد إلى فسخ الوحدة، فما ذلك إلّا لأنّه مخلوق حرّ على صورة الله. فحرّيّته بالذات هي التي لم يحسن استعمالها. عانى التمزيق الدائم في كيانه، وعاش في مأساة دائمة ارتضاها لذاته بذاته.
 
إذا لم يحرّرنا الابن بقينا عبيدًا لآلامنا غير قادرين على حفظ وصاياه وعيشها وهضمها لتغذيتنا روحيًّا وجسديًّا، إذ إنّه لا دواء لأمراضنا الفتّاكة ما دمنا لم ننكر بعد ذواتتنا، ولم نحمل الصليب، ولم نزل نحبّ العالم غير حاملين نير المسيح الهيّن، غير مصلّين ولا صائمين وساهرين. محبّين العالم غير أمينين فيما حولنا، لا نغتذي بجسد إله يقدَّم لنا، ولا نرتوي من دم أريق على الصليب من أجلنا. نحسب أنّنا مجرَّبون فوق الطاقة ولا نصبر إلى المنتهى حتّى نخلص.
 
كثيرون يشعرون بأنّهم واقعون تحت نير هذه الحياة وظروفها القاسية، فيتمرّدون على الله وينسبون إليه تعالى كلّ مساءة أُلحقت بهم، فلا يقبلون أقلّ صعوبة أو ألم أو فشل. والأجدر بنا أن نقبل كلّ ألم أو خسارة تأتينا من خارج ذواتنا، فلنقبلْها ونحوّلْها ولا نرفضْها بل لنستفدْ منها، إذ فيها يكمن سرّ حكمة المسيح!
 
أما كان ينبغي أن يتألّم المسيح كثيرًا ثمّ يدخل إلى مجده؟ إنّ قبولنا بفرح ورضى كلّ ألم يأتينا من الآخرين، بغضَ النظر عن كيفيّته وأسبابه، ينمّي فينا بذور كلّ الفضائل لأنّه وُهب لنا ليس فقط أن نؤمن بالمسيح، ولكن أن نتألّم من أجله أيضًا. هذا هو منطق الكنيسة حيال فلسفة العالم، التي ترفض الألم الذي إذ احتُمل من أجل المسيح، صار نعمة وبركة بدل أن كان لعنة وقصاصًا.
 
نحن كلّنا من جبلة واحدة، وبحاجة إلى التحرّر من خوفنا من أن نتألّم أو لا ننجح في هذا أو ذاك، لأنّه لا خوف في المحبّة بل تطرحه خارجًا، لكي نستطيع من جديد السير على الطريق القويم المؤدّي إلى الوحدة الجديدة مع المسيح، والتي لا تتحقّق إلّا باقتبالنا الألم كائنًا مصدره ما كان. فإنّه لن يفعل فينا إذا احتملناه من أجل يسوع.
 
نحن بشريّة ساقطة ملوَّثة بسموم الكبرياء لا نعرف أنفسنا إلّا منفصلين ولكن غير متروكين، ممتحَنين ولكن ليس فوق الطاقة، فقراء ولكنّنا نغني كثيرين. الله لا يسمح للذي آمن باسمه أن يحزن حتّى اليأس من خلاصه، بل يمنح المؤمن فرجًا وتعزية في الوقت المناسب. إذا لم يفهمنا الغير، إذا لم ننجح في مهمّة ما، وإذا لم نستطع أن نوفّق بين واجباتنا الإنسانيّة والروحيّة، واختلّ ميزان الوعي عندنا فأمسينا مضطربين خائرين، فلنعلم أنّ ما هو حاصل لنا ليس سوى وسيلة تطهيريّة سمح بها الله لصالحنا، فلا نرفض ذلك.
 
هذه سُنّة الحياة الروحيّة أن ننسى ما هو وراء ونسعى إلى ما هو قدّام. أن نقبل كلّ المعاكسات والضيقات مهما كانت شديدة وغريبة عنّا، لأنّه هنا تكمن فضيلة الصبر، الصبر حتّى الموت. علينا أيضًا أن نقبل الحوادث غير المنتظرة في حياتنا اليوميّة رغم عدم صحّتها بالنسبة لما نتحلّى به من حسن التقوى والتصرّف الحسن، وأن لانرفضها، بل لنحارب أفكارنا، ونجاهد لنتقدّم رافضين كلّ فكرة خبيثة تطرق باب عقلنا، تلك الأفكار التي تشوّش على سلام قلبنا قائلة لنا بإلحاح، إنّ كلّ ما يحصل للإنسان هو مقدَّر له، وهذا مصير كلّ إنسان.
 
لا نقبل مثل هذه السموم بل لنقل لها بصراحة، إنّما نقبل بالضيقات ونرضى بها كإرادة الله التي تعمل دائمًا لخلاصنا. الله لا ينتقم من الإنسان، ولا يترك جبلة يديه تزلّ حتّى الجحيم. حالاتنا الصعبة هي هدايا من الله، دعوات من الله، تذكير لنا بوعود أو نذور قد نذرناها له ولم نفه بعد إيّاها. أو هي مناسبات لنعمل الصالحات ونكره عمل الشرّ.
 
حالاتنا الصعبة مخطّط الله في تجديدنا وإسعادنا، لنكبر ونتقدّم في معرفته، فليس لنا سوى إظهار تلك الجرأة أمام الله التي بها نتقبّل كلّ شيء بغير ارتياب أو شكّ من الله الذي إذا طلبنا منه سمكة لا يعطينا حيّة. لا نصمّ آذاننا ولا نغمض عيوننا أمام مفاجآت غرّبتنا على هذه الأرض طالما نحن نؤمن بخالق، بحقيقة، بمتجسّد فحقّ لنا أن نتشبّه بالمسيح. بتقبّل صعوبات الحياة وآلامها تصبح حياتنا أكثر أصالة وجذريّة في تربة الكنيسة، وتتوطّد علاقتنا مع الله، وتصير لنا شجاعة المثول أمامه وجهًا لوجه.
 
الله يريد خيرنا، سعادتنا، حرّيّتنا، أن نأتي إليه عن اختيار لا عن اضطرار، حالاتنا الصعبة كثيرًا ما تكون ينبوعًا للتحرّر من أهوائنا، من عادات تحكّمت فينا فحالت دون انطلاقة الروح. حالاتنا المريرة التي تداهمنا تقودنا إلى مكان معيّن إلى هدف، إلى غاية، فلا نَخَفْها كونها تحثّنا على تغيير أو تعديل موقفنا في حياتنا من نظرتنا إلى الله إلى الإنسان إلى المادّة. يجب أن لا نقبل أوقات الضيق بتحسّر وعدم رضى مع دمدمة وتأفّف، بل لنعترف أمام الله بجزيل فائدتها، فهي قادرة على تحريرنا من تشخيصنا الخاطئ للحياة، وتعدّنا لنوال المكافأة من الله.
 
سرّ الألم المسيحيّ هو أنّ له هدفًا، معنى. لا نتألّم للذّة في الألم، لأنّ الألم الذي لا نقبله من أجل الله يصير لنا معولًا نهدم به حياتنا الروحيّة مع فقدان ثقتنا بكلّ خليقة الله. لا نحلّلن ما يسمح الله به لنا من امتحان أو تجربة، ولا نفتّش عن لماذا وعن ليت وعن كيف؟ لا نقولّن إنّنا لا نستحقّ مثل هذه الآلام، بل لنقبلها باستسلام داخليّ من أجل الله لكي نستطيع أن نتقدّم وننتقل من المستوى الذي نحن فيه إلى المستوى المرتقب، أي لنكون حاضرين أمام الله راضين بيسوع سيّدًا مالكًا زمام كياننا، ولنفتح له الباب ليدخل دافقًا علينا من نوره لأنّنا بنوره نعاين النور.
 
[1] لدير القدّيس جاورجيوس/ الحرف. عن مجلّة النور لعام 1967.